دور مؤسسات المجتمع المدني في الاستقرار الاجتماعي
ماجد أبوكلل
الاستقرار الاجتماعي :
الاستقرار في اللغة ( مشتق من الفعل أستقر) و معناه الثبات و السكون , و الاستقرار في المعنى العام يعني الهدوء و السكينة و عدم الاضطراب و التبدل السريع .
اما مصطلح ( الاستقرار الاجتماعي Social Stability) فيختلف معناه من مجتمع الى اخر حسب مستوى التطور الفكري و الاقتصادي لذلك المجتمع , ولكن عموما يمكن القول ان الاستقرار الاجتماعي هو :
(حالة الهدوء و السكينة التي تنتاب المجتمع و تجعله قادرا على تحقيق طموحاته و اهدافه نتيجة للتوازن الاجتماعي بين مختلف القوى الاجتماعية الفاعلة ).
نلاحظ في التعريف اعلاه انه جعل من الاستقرار الاجتماعي ( حالة ساكنة ستاتيكية ) نتيجة للتوازن الاجتماعي ( حالة متحركة ديناميكية ) و المقصود هنا بالتوازن الاجتماعي هو التكيف البطيء لعناصر الاستقرار الاجتماعي مع التغييرات التي تحدث في احدها لحين الوصول الى حالة الاستقرار السابقة على التغيير واذا حدث تغيير سريع فاحتمال حدوث حالة من الفوضى العارمة كبير جدا , كما انه اعطى مؤشرا على حالة الاستقرار الاجتماعي و هي كون المجتمع المستقر قادر على تحقيق اهدافه و طموحاته و هذا سبب منطقي يجعل من فهم الاستقرار الاجتماعي يختلف حسب المجتمعات لان المجتمعات تختلف في تحديد اهدافها و طموحاتها حسب درجة تطورها الفكري و الحضاري و حسب الاولويات التي تحددها لنفسها من خلال مؤسساتها الفاعلة و الرؤية التي تعتنقها هذه المؤسسات و التي تعتبر بالتالي رؤية مؤثرة في اغلبية افراد المجتمع , كما ان القوى الاجتماعية الفاعلة هنا تشمل طيف واسع من المؤسسات الاجتماعية (العشائرية و السياسية و الدينية) و طبيعة العلاقات المتبادلة بين هذه المؤسسات, وهنا قد يتداخل الاستقرار الاجتماعي مع مفاهيم اخرى مثل الاستقرار السياسي و الاستقرار الاقتصادي و الاستقرار الامني و كل هذه المفاهيم هي اجزاء لمفهوم اوسع هو الاستقرار الاجتماعي و تعمل معه جنبا الى جنب بنفس الوقت , نستطيع القول ان الاستقرار الاجتماعي هو منظومة كبيرة تتكون من عدد من المنظومات الفرعية المتظافرة مثل الاستقرار الامني و الاستقرار الاقتصادي و الاستقرار السياسي.
اذا كنا نبحث عن امثلة عن الدول المستقرة ( اجتماعيا , سياسيا , اقتصاديا ...الخ ) حتى يمكن دراسة تجاربها فستكون في الصدارة دول شمال اوربا ( اسكندنافيا ) و كندا و استراليا و من ثم اليابان و كوريا , وهناك امثلة لدول مستقرة ولكن استقرارها هش لاسباب كثيرة مثل دول مجلس التعاون الخليجية .
كما يمكن ان نعرف الاستقرار الاجتماعي في حالة المجتمعات ذات الهويات الفرعية المتعددة :
(حالة العمل و التفاعل الايجابية غير المقيدة بين هذه المجتمعات الفرعية دون وجود معوقات طبيعية او مصطنعة داخلية او خارجية و دون وجود قوة قهرية تجبر هذه المجتمعات على العمل و التفاعل معا)
في بعض البلدان نجد حالة من الاستقرار الاجتماعي الهش او ( المزيف ) نتيجة وجود قوة قهرية ( قد تكون سلطة حكومية ) تثبت حالة الاستقرار الاجتماعي و لكنه في الحقيقة ليس استقرارا اجتماعيا طبيعيا يمكن ان يستمر و يصمد اذا زالت او ضعفت هذه السلطة المتجبرة بل انه سيزول فور زوال هذه السلطة و ينقلب المجتمع الى حالة من مجتمع الازمة او الازمات , وقد تؤدي هذه الحالة ( الاستقرار الاجتماعي المزيف ) في بعض الحالات الى الثورة او الى الصراعات العنفية بين افراد التكوينات الاجتماعية المختلفة في عملية اعادة توازن اجتماعي غير منضبطة و غير مسيطر عليها ( فوضوية ). كما يمكن في مثل هذه المجتمعات تدخل اطراف من خارجها للعب دور في استغلال و توجيه حالة الاستقرار الاجتماعي الهش باتجاهات تخدم مصالح هذه الاطراف الخارجية التي بالضرورة تختلف عن المصالح العليا لهذه المجتمعات المقهورة .
تهديدات الاستقرار الاجتماعي :
اكثر ما يهدد الاستقرار الاجتماعي هو حصول الازمات التي تؤدي الى استقطاب حاد في المجتمع , هناك انواع كثيرة من الازمات تحصل نتيجة ارادات لمؤسسات فاعلة في المجتمع , و قد يكون الشائع من هذه الازمات هو ازمة الهوية عندما تتصارع الهويات الفرعية لأفراد المجتمع فيما بينها وتفقد الهوية الوطنية الجامعة قدرتها على احتواء الهويات الفرعية ( مثل الهويات الطائفية او العرقية ...الخ ) نتيجة صراعات سياسية تصطبغ بالوان الهويات الفرعية, هناك ايضا ازمة تداول السلطة عندما يحاول طرف سياسي الاستئثار بالسلطة و اقصاء الاطراف الاخرى و تحصل حالة من ( الانسداد ) في النظام السياسي ,هناك ايضا ازمة فرض طرف لفكره و منهجه على الاخرين و محاولة الغائهم بالقوة المسلحة و الارهاب, هناك ايضا ازمة تحييد و اقصاء الاقليات السياسية او العرقية او الطائفية نتيجة سوء فهم للممارسات الديمقراطية , وهناك ازمة غياب او تغييب العدالة الاجتماعية و سوء توزيع الثروة العامة , وهناك انواع اخرى من الازمات تتعدد بتعدد المجتمعات و مستوى تطورها الحضاري و الفكري , تمثل هذه الازمات منفردة او مجتمعة تهديد لحالة الاستقرار الاجتماعي المنشود, و قد اختبرنا في العراق العديد من انواع الازمات التي ذكرناها سابقا و انتجت هذه الازمات حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي او الاستقرار الهش .
نستطيع القول ان المصدر الرئيسي للتهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الاجتماعي هو مصدر سياسي يأخذ اشكال و صور مختلفة ولكن بالتحليل الموضوعي نجد بالمحصلة انه سياسي او ناتج عن ممارسات سياسية غير صحيحة .
ج - دور مؤسسات المجتمع المدني في الاستقرار الاجتماعي :
تستطيع مؤسسات المجتمع المدني ان تلعب دورا يجابيا في وصول العراق الى حالة من الاستقرار الاجتماعي , المقصود هنا بمؤسسات المجتمع المدني المنظمات غير الحكومية و الاتحادات و النقابات المهنية , بالنسبة للاحزاب السياسية ( واحدة من مؤسسات المجتمع المدني ) استثنيها في هذه الورقة من مؤسسات المجتمع المدني و قد نعود لها في ورقة اخرى , قبل بحث دور هذه المؤسسات في ترسيخ الاستقرار الاجتماعي في العراق لنبحث المقدمات الضرورية لهذا الدور و ما يجب ان تكون عليه هذه المؤسسات من مواصفات لتتمكن من لعب هذا الدور :
يجب ان تكون هذه المؤسسات غير متحزبة ( مرتبطة عضويا بحزب سياسي ) .
يجب ان تكون هويتها الوطنية العراقية فوق كل الهويات الفرعية , حتى لو كانت هذه المؤسسة تعمل تحت هوية فرعية فلا يضر اذا كانت في سلوكها العام تقدم الهوية الوطنية على هويتها الفرعية.
ان تكون هذه المؤسسة تمتلك ارادة حقيقية و رغبة في العمل على تحقيق حالة الاستقرار الاجتماعي.
ان تكون هذه المؤسسة مستعدة للتباحث مع مؤسسات مجتمع مدني اخرى و بجدية لتطوير رؤية و استراتيجية مدنية مشتركة لترسيخ حالة الاستقرار الاجتماعي في العراق.
نعود الان لبحث ماهية الدور الذي يمكن ان تلعبه مؤسسات المجتمع المدني , هناك عدد من الاستراتيجيات التي يمكن وضعها لهذه المؤسسات و التي تخطط للعب هذا الدور و لكن قبل الخوض في هذه الاستراتجيات من المهم جدا التركيز على الرؤية المشتركة التي يجب على هذه المؤسسات ان تطورها و تتشاركها لتحقيق الاستقرار المجتمعي في العراق .
و كون هذه المؤسسات معنونة بعنوان ( مؤسسات المجتمع المدني ) فمن البديهي ان تكون رؤيتها تعتمد على مقومات المجتمع المدني , اذا لا بد للرؤية ان تؤسس على مفاهيم ( المواطنة , التساوي امام القانون , الحكم الرشيد , مكافحة خطاب الكراهية و التطرف , مكافحة العنصرية , ترسيخ حرية التعبير , احترام حقوق الانسان , مكافحة الفساد , المساءلة الاجتماعية , تمكين المرأة , العدالة الاجتماعية ....الخ , بالنسبة للاستراتيجيات هناك استراتيجيتان مهمتان على الاقل يجب على مؤسسات المجتمع المدني بحثهما :
استراتيجية المراقبة و الرصد : و تعتمد على مراقبة الساحة العراقية لرصد اي مظهر من مظاهر التناقض او الاختلاف مع الرؤية التي يتم تبنيها من قبل مؤسسات المجتمع المدني لتحقيق الاستقرار الاجتماعي للعمل على معالجة ما يتم رصده حسب خطورته .
استراتيجية المبادرة : و تعتمد على التخطيط لمبادرات تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني لتحقيق رؤيتها حول الاستقرار الاجتماعي في العراق , و يمكن ان تكون هذه المبادرات محاولة التدخل الايجابي بين الاطراف المتخاصمة او المتنافسة و التي تؤثر في ازدياد حالة الاستقطاب الفئوي في المجتمع العراقي ( هذا الوصف لا يشمل بأي حال من الاحوال التنظيمات الارهابية ) , او طرح مبادرة على شكل تشريع او تعديل تشريع ترى هذه المؤسسات ضرورته لتحسين حالة الاستقرار الاجتماعي او تطوير ممارسات سياسية معينة ...الخ .
كما لا بد من ايجاد مرجعية موحدة تنسق عمل المؤسسات المدنية و هي تتحرك باتجاه ايجاد و تقوية حالة الاستقرار الاجتماعي و هذه المرجعية تتحمل عبء التنسيق و التخطيط حتى يمكن استثمار مختلف الموارد لهذه المؤسسات و كذلك يمكن تعظيم الاثر بالمقارنة لو بقى العمل متفرق و غير منسق , كما ان التحديات ستكون كبيرة من اطراف كثيرة ستجد ان مصالحها الخاصة عرضة للخطر نتيجة حركة هذه المؤسسات المدنية , فكما هو معروف ان حالة عدم الاستقرار الاجتماعي هي نتيجة لمماراسات مستمرة من قبل جهات متعددة لها مصالح خاصة متضاربة و من المؤكد ان هذه الجهات لن تبقى مكتوفة الايدي و هي ترى من يحاول ان يحد او يعرقل جهودها و مخططاتها , لذا من الضروري تنسيق المواقف و الحركة من قبل مؤسسات المجتمع المدني لضمان اكبر قدر من النجاح مع اقل قدر من المخاطرة.
التوصيات :
مؤسسات المجتمع المدني المؤهلة للعب دور في الاستقرار الاجتماعي هي المؤسسات غير المتحزبة , المستقلة , ذات التوجهات الوطنية , المؤمنة بالقيم المدنية التي لديها رؤية مشتركة تركز على القيم و الممارسات المدنية و الديمقراطية .
لا بد لمؤسسات المجتمع المدني التي تتوفر فيها الارادة و تتوفر فيها الصفات المذكورة في النقطة السابقة ان تنسق نشاطها في ميدان الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي من خلال تحالف او شبكة يجعل من عملها مؤثرا و يوفر لها الحماية من اي مخاطر محتملة.
نوصي باعتماد استراتيجية المراقبة و الرصد و استراتيجية المبادرة في نشاط هذا التحالف او الشبكة التي ستعمل على جمع المؤسسات المدنية العاملة لاجل الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق