2012/02/18

التنمية حرية: مؤسسات حرة, وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر

منقول


"التنمية حرية: مؤسسات حرة, وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر"

أمارتيا صن (ت. شوقي جلال), عالم المعرفة, ماي 2004, 405 ص.

1- ولد أمارتيا صن بدكا عاصمة بنغلاديش في العام 1933, ويقال إن الشاعر الهندي طاغور هو الذي اختار له إسمه, كون كلمة أمارتيا تعني بالبنغالية "غير القابل للفناء". هاجر مع عائلته إلى الهند بعد تقسيمها سنة 1947, ودخل جامعة "فيسفا بهارتي" بكلكوتا, ثم مدرسة دلهي للاقتصاد, قبل أن يلتحق في العام 1956 ب"ترتينيتي كوليج" بجامعة كامبردج (التي حصل من بين أروقتها على درجة الدكتوراه في الاقتصاد, على الرغم من كونه كان شديد الاهتمام بالتزامن وذلك بالفلسفة), ليصبح مديرا له فيما بعد, ويكون بذلك, أول جامعي أسيوي يسير مؤسسة بهذا التألق من بين ظهراني جامعة كامبردج الشهيرة.

مارس مهنة تدريس الاقتصاد بجامعة كلكوتا, ثم بجامعة جادافبير بدلهي, فجامعة أكسفورد, ثم بمدرسة لندن للاقتصاد, وجامعة هارفارد ما بين العام 1998 و 2004 ليعود بعد ذلك إلى هارفارد.

حصل في العام 1998 على جائزة نوبل في الاقتصاد عن عمله "اقتصاد الرفاه", ثم  حصل فيما بعد, على العديد من الجوائز الدولية من الهند وإيطاليا... وبنغلاديش تيمنا وتكريما لأصوله البنغالية.

له العديد من المؤلفات ضمنها "الفقر والمجاعات" (1971), و"الأخلاق والاقتصاد" (1993), و"الاقتصاد علم أخلاقي" (2004), و"العقلانية والحرية في الاقتصاد" (2005), فضلا عن العديد من المقالات والدراسات...ناهيك عن ثويه خلف تصميم "معيار التنمية الإنسانية" الذي تتداوله اليوم العديد من دراسات المنظمات الدولية, وتبني عليه توجهاتها وتصنيفاتها للدول والحكومات.

2- يقول المترجم في تمهيده للكتاب: "يمثل هذا الكتاب إحدى الرؤى الإبداعية بامتياز للعالم الثالث إزاء قضية التطوير الحضاري, التي يختزلها الساسة والاقتصاديون في عبارة/مسألة واحدة هي التنمية الاقتصادية, وفي مظهر ومعيار اقتصادي واحد هو الدخل, أو إجمالي الناتج القومي ومعدلات الإنفاق, من دون كل جوانب الحياة الأخرى النوعية, ومن دون الحرية بمعناها الواسع, أو أدوات وقدرات الحرية من تعليم, ورعاية صحية, وحق التعبير, والحصول على المعلومات, وفرص اختيار الحياة...الخ. والنتيجة إخفاق تلو إخفاق, وعجز عن المنافسة".

ويتابع القول في استقراء لفكر أمارتيا صن: "إن تنمية رأس المال البشري, تنمية قدرات الإنسان/المجتمع لا تأتي قسرا, ولا تتحقق أبدا في مناخ استبدادي أو بناء على قرار سلطوي. كما أن العدل الاجتماعي لا مكان له في ظل نظام, الحاكم فيه هو الكلمة/الحق النافذة, وهو الصواب والمرشد والموجه الهادي. الحرية آلية تطوير حضاري وهي في الآن نفسه ثمرة متطورة النضج لهذا التطوير".

ويؤكد المترجم أن تفضيل أمارتيا صن لمصطلح رأس المال/القدرة البشرية, بدلا من راس المال البشري, مؤداه أن التركيز على هذا الأخير, هو من التركيز على فعالية البشر كأدوات في زيادة إمكانات الإنتاج, في حين أن منظور رأس المال/القدرة البشرية "يضع في بؤرة الاهتمام قدرة (الحرية الموضوعية) الناس على بناء حياة, لديهم أسباب عقلانية للنظر إليها كشيء قيم, وعلى تعزيز خياراتهم الحقيقية, وكفالة مقومات هذه القدرة وتطويرها. وهنا يكون الإنتاج وسيلة لهدف, هو حرية ورفاه الإنسان ...الإنسان بمواصفات حضارية جديدة هو الهدف والغاية, والاختلاف بين المنظورين هو في أداة قياس التقدير".

3- ينقسم كتاب "التنمية حرية" إلى إثنا عشرة فصلا, بالإمكان محورتها هنا حول الأفكار السبع التالية:

+ الأولى, وتتعلق بمنظور المؤلف لمسألة الحرية, ويركز فيه على الحرية الأولية, أي "القدرة على البقاء, بدلا من الوقوع ضحية لموت مبكر", جراء الفقر أو الجوع أو ضعف وسائل التطبيب والصحة. وهي حرية موضوعية بنظر الكاتب, قد تحد منها معطيات موضوعية أهمها سبل توسيع أو تقييد فرص السوق, أو مدى مركزة القرارات ذات الطبيعة الاقتصادية, أوحجم مشاركة المواطنين في تحديد الأولويات.

هذه الأخيرة مرتبطة بذهن الكاتب, بقضية أهم وأخطر, تتعلق بمصدر السلطة والشرعية, إذ أن "أية محاولة لتعطيل حق حرية المشاركة, تأسيسا على قيم تقليدية (مثل الأصولية الدينية, أو العرف السياسي, أو ما يسمى القيم الآسيوية) إنما هو ببساطة, إغفال لقضية الشرعية, ولحاجة الناس أصحاب المصلحة في المشاركة, من أجل اتخاذ قرار بماذا يريدون, وماذا يقبلون, مدعوما بالأسباب العقلانية".

نفس الشيء بالنسبة لجانب المعرفة, إذ ما دامت المشاركة "تستلزم توافر المعرفة, وقدرا من المهارات التعليمية, فإن حرمان جماعة ما (إناث الأطفال مثلا) من فرصة التعليم, إنما يعتبر على النقيض مباشرة للشروط الأساسية لحرية المشاركة".

بالتالي, يقول المؤلف, فإن "ما من شأنه أن يكون ذا أثر مدمر (الذي غالبا ما نلمسه في أدبيات التنمية) هو إغفال اهتمامات محورية وثيقة الصلة, بسبب قصور الاهتمام بحريات الناس المعنيين".

+ الفكرة الثانية, وتتعلق بأطروحة للمؤلف, يتبنى فيها كيف أن الحرية قد يكون من شأنها تغيير التحليل التنموي المعتمد, على خلفية أن "الآراء ضيقة الأفق عن التنمية (في ضوء نمو إجمالي الناتج القومي مثلا أو التصنيع) غالبا ما تثير سؤالا عما إذا كانت حرية المشاركة السياسية والمعارضة تفضي, أو لا تفضي إلى التنمية".

ويحسم المؤلف موقفه قائلا: "إن المرء, حتى لو كان من أكثر الناس ثراء, إذا ما حيل بينه وبين التعبير بحرية عن رأيه, أو إذا حظرت عليه المشاركة في الحوارات العامة أو في اتخاذ القرارات العامة, فإنه يصبح بذلك محروما من شيء يراه عن حق شيئا قيما. وإن عملية التنمية إذا ما حكمنا عليها على أساس تعزيز الحرية البشرية, فلا بد أن تتضمن إزاحة هذا الحرمان الذي يعانيه المرء".

بالتالي, يقول الكاتب, فإن الحرية ليست غاية فحسب, بل هي أيضا وسيلة. "ويعني الدور الأداتي للحرية, بالطريقة التي تسهم بها الأنواع المختلفة من الحقوق والفرص والصلاحيات, لتوسيع نطاق الحرية الإنسانية بعامة".

الحرية الأداتية, بنظر المؤلف, تتعلق بالحرية السياسية بما هي شاملة للحقوق المدنية, من استحقاقات سياسية, وفرص حوار واختلاف, ونقد سياسي وما سواها.  ثم هناك الحرية الاقتصادية كرابط عميق بين "الدخل القومي والثروة القومية من ناحية, والاستحقاقات الاقتصادية للأفراد من ناحية أخرى".

ثم الحرية الاجتماعية, وما يرتبط بها من موضوعات التعليم والرعاية الصحية وغيرها, "والتي تؤثر في الحرية الموضوعية للفرد من أجل حياة أفضل".

هذه الأدوار الأداتية للحرية هي التي من شأن الارتكاز عليها صوغ مصير الناس, كي "لا يكونوا عناصر سلبية, تتلقى ثمار برامج تنمية جذابة في ظاهرها", لكنها غير مضمونة التداعيات على الأفراد أو الجماعات.

+ الفكرة الثالثة, ومفادها العلاقة بين الحرية والعدالة. ويتحدث فيها الكاتب عن النظريات النفعية (زيادة المنفعة واللذة والسعادة, أو تحقيق الرغبات وما سوى ذلك) ودورها في التنمية. ويلاحظ أن هذه النظريات مجتمعة, تستخدم الدخل والسلعة كأساس مادي للرفاه, في حين أن ثمة بون فارق بين هذا المعيار وما يتحصل عليه المرء من حرية, جراء الفوارق والتباين في الدخول, وما يستتبع ذلك من مظاهر الفقر والجوع والحرمان.

بالتالي, فالمهم بنظر الكاتب, ليس هذه المنافع المادية المباشرة, بقدر أهمية حيز الحريات الموضوعية (أو القدرات) "لاختيار المرء حياة لديه المبرر لإضفاء قيمة عليها". من هنا وجب أن ينصب الاهتمام لا على السلع في ذاتها, بل على الحريات التي تولدها في الزمن والمكان.

+ الفكرة الرابعة, ويتحدث فيها الكاتب عن الفقر كحرمان من القدرة. ويميز الكاتب هنا بين فكرة الفقر كنقص في القدرة, وبين الفقر كنقص في الدخل, وأنه لا يمكن الربط بينهما مادام الدخل وسيلة مهمة للحصول على القدرات.

بالتالي, فأمارتيا صان لا يربط الفقر بالدخل المباشر الذي قد يتحصل عليه المرء من عمل ما أو عبر دعم حكومي (باعتبار الدخل ليس الأداة الوحيدة للعيش), ولكن أيضا بالمعطيات المختلفة التي تحول دون توليد القدرات لدى الأفراد, للزيادة في دخولهم وبالتالي تحسين ظروف عيشهم. ويعطي نموذجا على ذلك بالبطالة, التي هي أداة لمنع سبل توليد هذه القدرات.

لا يرجع الكاتب هذه الإكراهات للظروف الاجتماعية فحسب, بل وأيضا للأسواق العالمية وللدولة كذلك, بجهة "ما يمكنها أن تفعله وما هو مسموح لها بأن تفعله", بجهة الانفتاح أو بجهة التقييد...والكل محكوم بدرجة وطبيعة العقلانية المعتمدة بهذا البلد أو ذاك, والتي لا يضمنها السوق إلا إذا كان مشروطا بتدابير, وترتيبات سياسية واجتماعية محددة.

+ الفكرة الخامسة, ويركز فيها المؤلف على ما يسميه ب"أهمية الديموقراطية". ويعتقد هنا أن الترابطات المتبادلة والمتداخلة بين الحريات السياسية والاحتياجات الاجتماعية ليست أداتية فحسب, بل هي أيضا بنيوية. إذ "إن الحريات السياسية يمكن أن يكون لها دور مهم في توفير الحوافز والمعلومات, من أجل حل الضرورات الاقتصادية الملحة".

ويتساءل الكاتب: "هل نظام الحكم الاستبدادي مثمر فعلا؟". ويجيب أن الملاحظة تبين أن العديد من الدول الاستبدادية بآسيا وبأمريكا اللاتينية, حققت معدلات نمو اقتصادي معتبر. لكنه يعترف بالآن ذاته, بأنه ليس ثمة شواهد مدققة, تثبت العلاقة بين نظام الحكم الاستبدادي والقامع للحريات السياسية, وبين مستوى التنمية الاقتصادية المحقق.

بالمقابل, وجب النظر بتمعن ليس فقط في نمو إجمالي الناتج المحلي أو بعض المؤشرات الكمية الأخرى, بل يتعين النظر أيضا إلى أثر الديموقراطية في الحريات السياسية, على حياة وقدرات المواطنين.

ثم هل بالإمكان القول بأن الدول الفقيرة لا تقيم اعتبارا للديموقراطية والحقوق السياسية؟ يتساءل المؤلف. بهذه النقطة, يتصور صان أن رفض القمع والحرمان, وتنكر الحكام لمطالب شعوبهم واحتجاجاتهم تبين العكس. لا تبين أنهم أكثر التصاقا بالحقوق السياسية, حتى وإن لم يعبروا عنها بالمصطلحات الرائجة.

من هنا تركيز أمارتيا صن على "الدور البنائي للحرية السياسية", والأهمية الأداتية لهذه الأخيرة, كون الديموقراطية مهمة في طبيعتها الجوهرية, وفي إسهاماتها الأداتية, وفي دورها البنائي في ابتكار قيم ومعايير جديدة أو متجددة.

+ الفكرة السادسة وترتبط بمجال تخصص الكاتب, مجال المجاعات. حيث يلاحظ اننا "نعيش في عالم يسوده على نطاق واسع, الجوع ونقص التغذية والمجاعات المتكررة...ولكي نقضي على الجوع في العالم الحديث, يتعين بشكل حاسم فهم أسباب حدوث المجاعات, ضمن إطار تفكير عام وملائم, وليس فقط في إطار توازن ميكانيكي بين الغذاء والسكان".

ولعل الشيء الحاسم في ذلك, بنظر الكاتب, إنما تحليل الجوع في كونه حرمانا من الحرية الموضوعية للفرد والأسرة, لتأكيد ملكيتهم لكمية كافية من الغذاء, عبر زرعها أو شرائها من السوق. لا بل إن الجوع, بنظره, لا يرتبط فقط بكمية الغذاء المنتج فرديا, بل وكذلك بالاقتصاد في مجموعه, وكذا بتفعيل التنظيمات السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تؤثر في الناس, لتوفير الغذاء لهم.

بالتالي, فإن "نقص التغذية والجوع والمجاعات تتأثر بعمل وأداء الاقتصاد والمجتمع في صورتهما الكاملة, وليس فقط بإنتاج الغذاء والأنشطة الزراعية". من هنا أهمية التكافل بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي في محاربة هذه الآفات, وعدم تهميش القدرات المضيعة, من قبيل دور المرأة في التغير الاجتماعي التي أفرد لها الكاتب فصلا كاملا (الفصل الثامن).

وفي حديثه عن العلاقة بين الديموقراطية والمجاعة, يلاحظ الكاتب أن "الشيء المؤكد عن يقين, أنه لم تحدث أبدا مجاعة في ظل ديموقراطية تعدد الأحزاب تؤدي دورها الحقيقي بكفاءة". قد يكون ذلك عرضيا في التاريخ, وقد يكون للأمر تفسيرات بنيوية, لكن المؤكد بنظره, أن للديموقراطية دورا وقائيا كبيرا في الحيلولة دون قيام مجاعات على نطاق واسع كما نلحظ ذلك بالنظم الاستبدادية, حيث العلاقة متوترة بين السكان والغذاء والحرية (الفصل التاسع).

+ الفكرة السابعة, ويتطرق الكاتب فيها لإشكالية "الثقافة وحقوق الإنسان", ويوضح كيف أن هذه الإشكالية لقيت في السنين الأخيرة, دعما وتأييدا كبيرين, "وأصبح لها ما يشبه المكانة الرسمية في الخطاب الدولي, وتلتقي بانتظام لجان لها تقديرها واحترامها للتباحث بشأن الالتزام بحقوق الإنسان, أو انتهاكها في مختلف بلدان العالم".

ويناقش الكاتب, بهذه النقطة, مصدر هذه الثقافة والحقوق, والقيم الثاوية خلفها, وهل هذه القيم كونية, أم أن لكل جهة من العالم مرجعياتها وقيمها في ذلك.

لا يستفيض الكاتب في ذلك كثيرا, لكنه يركز على المشترك بين منظومات القيم والمتمثل في الحرية, ومدى سعة الإرادة والاختيار, وتراجع "قيم" الاستبداد والتسلط, والحجر على معتقدات الناس, وتمثلاتهم لذواتهم وللكون من حولهم. بالتالي, فإن قصور التطور الاجتماعي إنما "يعوق بشدة مدى ونطاق التنمية أو التطوير الاقتصادي", وإلا فما معنى الحديث عن العلاقة بين التخلف وشيوع الفساد مثلا في عالم الأعمال, والذي يجعل السياسات العمومية عديمة الجدوى أو تكاد؟

ويخلص الكاتب إلى فكرة أساس, مفادها أن الحرية (الفردية كما الجماعية) هي بالأصل وبالمحصلة التزام اجتماعي. والالتزام مسؤولية والمسؤولية تقتضي الحرية.

ويختتم بقول لوليام كوبر: "الحرية تزهو بألف وجه من الجمال الفتان....لا يعرفها العبيد مهما كانوا بحياتهم قانعين"

كل ذلك لأن "التنمية/التطوير التزام جليل الشأن, ننجزه بإمكانات الحرية".

يحيى اليحياوي
الرباط, 12 أبريل 2007  




Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...